بقلم أ.د. / غادة عامر
لقد كنت كتبت منذ يومين منشور علي صفحات التواصل الاجتماعي الخاصة بي ، ما مضمونه ان
” أساس حل المشكلة الاقتصادية في هذا العصر هو دعم الابتكار الوطني و ريادة الاعمال ، و ذلك عن طريق عمل منظومه داعمة للابتكار خارج اطار الموظفين التقليديين ، و ان الابتكار و التصنيع المحلي هو الحل الوحيد للخروج من الازمة الاقتصادية و الاخلاقية التي تمر بها البلاد “
و لقد لفت نظري ان هناك من علق بأن بناء و دعم منظومة الابتكار هو شئ ثانوي بل و ان هذا الكلام أقرب الي الفلسفة و التنظير ، و ان دعم الابتكار ما لاهو الا رفاهية!
مع ان البنك الدولي يؤكد ان بعض البلدان حققت قفزات كبيرة في التصنيع والتقدم التكنولوجي في العقدين الماضيين من خلال الجمع الاستراتيجي بين الاستثمارات المستدامة في البحث و الابتكار والتطوير والبنية التحتية و رأس المال البشري ، و السياسات التي تدعم الصناعات الناشئة من خلال الإعفاءات الضريبية ودعم الصادرات . لذلك قررت أن اقدم تجربة حقيقية (من غير تنظير) ، تجربة دولة تحولت من الفقر و الانهيار الاخلاقي الي دولة متقدمة ، و من دولة مديونه الي دولة تدين حتي الولايات المتحدة الامريكية ، انها تجربة رحلة البرازيل من القاع الي القمة.
لقد عانت البرازيل في ثمانينات القرن الماضي من عدم الاستقرار الاقتصادي و الركود في كل القطاعات مما أدي الي البطالة و الانفلات الامني ، و الخلل السياسي نتيجة لعدم وجود ديمقراطية حقيقية ، لكن ادراك الحكومه المبكر لاهمية دعم الابتكار ، و انه هو الحل الوحيد للخروج من الازمات الاقتصادية المتتالية وللنهوض باقتصاد الدولة و خلق لفرص عمل جديدة . أنقذ الحكومه و البلد كلها من افلاس و الانهيار المحقق . لكن عند اعلان الحكومة رغبتها في بناء منظمومة نوعية لدعم الابتكار قوبلت بهجوم كبير من بعض اصحاب العقول المنغلقة ، الذين يعتقدون ان موضوع الابتكار هو شيء فلسفي تريد الحكومة اشغال الشعب به حتي لا تقدم الحلول الحقيقية لمشاكلهم ، (كما يحدث عندنا الان من بعض المنظرين).
المهم ان الحكومة لم تلتفت لهؤلاء و بدأ بوضع مجموعه من الاجراءات لخلق منظومة الابتكار الوطني ، ولم تتحرك البرازيل نحو الديموقراطية في الثمانينيات إلا بعد أن فتحت أسواقها تدريجيا أمام الابتكارات المحلية . وبدأ تنفيذ أول برنامج تمويل رئيسي يستهدف الابتكار في عام 1999 ؛ ومنذ ذلك الحين، تم تنفيذ العديد من السياسات والخطط الاستراتيجية التي تستهدف قطاعات تكنولوجية مختلفة . فكان اولها ان وضعت منظومة الاستثمار الآمن (كما فعلت اسرائيل من قبل) للشركات القائمة علي الابتكار الوطني ، و ذلك لتشجيع المستثمرين في الاستثمار في الافكار الوطنية . ومن أجل تعزيز الاداء الاقتصادي للبلد وزيادة الانتاجية من خلال دعم الابتكار ، وضعت الحكومه تشريعات بشأن تطوير العلوم والتكنولوجيا و تم إنشاء العديد من القطاعات الصناعية الهامة من منظور الأمن القومي ، مثل استخراج النفط والغاز والتعدين وتصنيع السيارات والطائرات ، تطوير صناعة الوقود الحيوي والبحث في احتياطيات النفط . وقد ازداد التمويل العام للبحوث بشكل طردي على مدى العقد الماضي من 1٪ إلى 1.17٪ من الناتج المحلي الإجمالي ، وهو الأعلى بين دول أمريكا اللاتينية . وقد ترجمت زيادة التمويل البحثي إلى زيادة طرديه في عدد البحوث المنشورة و التي لها عائد اقتصادي حقيقي علي المجتمع .
و مع استمرار نجاح الاقتصاد القائم علي الابتكار و المعرفة ، قامت الحكومة بعدة تغييرات هامة في إدارة العلوم والتكنولوجيا والابتكار في مايو 2016، كان اولها رفع إجمالي الإنفاق على البحث والتطوير لتصل إلى 2.0٪ من الناتج المحلي الإجمالي في 2019. كذلك قامت بدمج وزارات العلوم والاتصالات لتصبح وزارة العلوم والتكنولوجيا والابتكارات والاتصالات ، و أطلقت الاستراتيجية الوطنية الجديدة للعلوم والتكنولوجيا والابتكار ، التي تحدد التحديات الرئيسية التي تواجهها الدولة فيما يتعلق بسياسة العلوم والتكنولوجيا والابتكار وهي::
(1) سد الفجوة التكنولوجية مع الاقتصاديات المتقدمة .
(2) تعزيز القدرات المؤسسية لزيادة الإنتاجية من خلال الابتكار .
(3) الحد من التفاوتات الاجتماعية والاقليمية في الوصول إلى نظام الابتكار الوطني في البلد .
(4) إيجاد حلول مبتكرة للإدنماج الإنتاجي والاجتماعي .
(5) تعزيز التنمية المستدامة .
وتواصل البلد تطوير نظامها التكنولوجي ، بهدف دعم التطور التكنولوجي للشركات البرازيلية من خلال تشجيع أنشطة العلوم والتكنولوجيا والابتكار ، بما في ذلك الاستثمار في البحث والتطوير ونقل التكنولوجيا . ان دعم منظومة الابتكار المحلي في البرازيل جعل الناتج المحلي الإجمالي لها هو سابع أكبر اقتصاد في العالم ، خلف الولايات المتحدة والصين واليابان وقبل روسيا والهند ، و بعد هذا كله يأتي البعض و يقول ان دعم الابتكار الوطني هو رفاهية!!!
هذا في البرازيل ، لكن في منطقتنا لا يوجد تفسير للنهج الذي يتبعه بعض القيادات في الجهات الحكومية ، حيث تجدهم متحفظون للغاية ضد اي فكر جديد ، وهم تقريبا احتكاريون و يخشون التعاون مع اي شخص من خارج منظموتهم التقليدية ، على الرغم من أنهم يرتدون زي الانفتاح و قبول الافكار الجديدة امام القيادات السياسية ؛ لكنهم في الحقيقة يهاجمون بشدة اي فكرة جديدة او مبتكرة ، يا سادة بدون ابتكار أو خلق منتجات جديدة ، سيظل البلد رهينة لقطاعات مهلهلة و مستهلكة و لا أمل فيها ، لذلك ليس من المستغرب إذن أن ترتيب بلداننا من حيث قدراتهم الابتكارية والانتاجية و الاقتصادية مثير للشفقة ، وبدون إحداث تغيير ثقافي في مجال الاستثمار في البحث العلمي و الابتكار الوطني، ستظل دولنا تسير في اتجاه الفقر و القهر و الانعدام الاخلاقي !!!
من هي الأستاذة الدكتورة / غادة عامر ؟
1- الأستاذ و رئيس قسم الهندسة الكهربية بكلية الهندسة – جامعة بنها.
2- نائب رئيس المؤسسة العربية للعلوم و التكنولوجيا ASTF و عضو لجنة تحكيم للجائزة المعنية بالإبتكار و الإختراع و ريادة الأعمال التي تنظمها المؤسسة العربية .
3- تم إختيارها ضمن أكثر 20 شخصية نسائية تأثيراً في العالم الإسلامي في إستفتاء أجرته مجلة مسلم سايبنس Moslem Science.
4- تم إختيارها ضمن أقوي 100 إمرأة تأثيراً بالعالم العربي.
5- إختارتها مجلة أرابيان بيزنس ضمن أقوي الشخصيات تأثيراً في العالم العربي في مجال العلوم.
6- عضو لجنة تحكيم جائزة رولكس العالمية.
مقالات أخري للكاتبة أ د / غادة عامر بالموقع ::
1- معجزة الإقتصاد المعرفي الإسرائيلي.